تُقفل السنة الحاليّة على انقلابات كبيرة في الواقع السياسي اللبناني. وإذا كان يصحّ وصفُ 2017 بسنة الانقلابات السياسية، فإنّ الأشهر الأخيرة منها كانت مذهلة لجهة الصورة التي رسَت عليها.
ما من شك في أنّ السنة الجارية التي تنتهي بعد ايام كانت قد مهَّدت لهذا الدرب الانْقلابي الكبير، والذي بدأ باعتماد النائب سليمان فرنجية خياراً رئاسياً قبل أن تنقلب الصورة لمصلحة العماد ميشال عون إثر اتّفاق معراب، والأهمّ تمسّك «حزب الله» بعون خياراً وحيداً أوحد لرئاسة الجمهورية.
وما إن دخل رئيس الجمهورية قصر بعبدا حتى صاغ معادلته للحكم والقائمة على التمسّك بتحالفه الاستراتيجي مع «حزب الله» والإمساك بيد تيار «المستقبل» والتفاهم على الخطوط العامة للسياسة الداخلية.
معادلةٌ أمّنت الحدّ الأدنى من الاستقرار الحكومي، لكنّها ضاعفت من قلق الأفرقاء الآخرين بدءاً من رئيس المجلس النيابي نبيه برّي ومروراً بالزعيم الدرزي وليد جنبلاط وانتهاءً بالأفرقاء المسيحيين مثل تيار «المردة» وحزب الكتائب. أمّا «القوات اللبنانية» فكانت لها قصة أخرى.
فبعد «اتّفاق معراب» سعى الثنائي المسيحي الى فرض حضوره وإنهاء وجود القوى الأخرى من خلال الانتخابات البلدية تحت شعار القرار المسيحي القويّ، لكنّ نتائج الانتخابات البلدية أتت معاكِسة.
ومع دخول عون قصر بعبدا، اندفعت «القوات» لتلعب دورَ «عرّاب العهد» وعلى أساس الشراكة في كلّ شيء بدءاً من الحصّة الوزارية واستكمالاً في ملف التعيينات. ووفق هذا العنوان لعبت «القوات» لعبة إحداث شرخ بين عون و»حزب الله» في مقابل تقريب المسافة بين معراب والضاحية الجنوبية.
في المقابل، فإنّ رئيس الجمهورية الذي ضغط لإعطاء «القوات» حصّة موازية لحصّة «التيار الوطني الحر» في الحكومة، حاذَر الانزلاق في اتذجاهات متسرّعة، واستمرّ متسلّحاً بمعادلة الحكم التي وضعها. لكنّ سمير جعجع كان يريد تكريسَ معادلة عون - جعجع، وأن يكون طيفُه حاضراً في مكاتب قصر رئاسة الجمهورية، فيما عون كان متمسّكاً بثنائية «التيار» و«القوات»، أو بتعبير أصحّ ثنائية باسيل - جعجع.
لكنّ الانعطافة الكبرى أتت مع إقرار قانون جديد للانتخابات اعتمَد النسبية وأعطى لجعجع شعور الاستقلاليّة تحديداً في تشكيل اللوائح الانتخابية. عندها أصبح الخلاف علنياً وأضحى الخيط السرّي الذي يربط معراب بعين التينة والمختارة أقوى وأمتن.
في المقابل، فإنّ «زواج المتعة» الذي كان قائماً بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة والذي كان مقرّراً أن يترجم في اللوائح الانتخابية كان يقف الموقف السعودي حائلاً امامه.
كان الرئيس سعد الحريري الراغب بشدة في تحالف انتخابي عريض مع «التيار الوطني الحر» يخشى في الوقت نفسه من «فيتو» سعودي كان سيُلزمه إجهاضَ هذه الفكرة.
وقيل يومها إنّ رسائل كثيرة تمّ تبادلُها بين أفرقاء لبنانيّين والسعودية، وأنّ الوزير السعودي ثامر السبهان الذي تولّى الملف اللبناني وزار لبنان ردّد أنّ تيار «المستقبل» لن يتحالف مع «التيار الوطني الحر».
لكنّ الانقلابَ الكبير حصل مع انتهاء أزمة الحريري في السعودية. صحيح أنّ رئيس الحكومة حرص على توزيع عبارات الودّ تجاه السعودية والإيحاء وكأنّ العلاقة بقيَت كما هي، إلّا أنّ العواصم الأوروبية، وتحديداً باريس تحمل انطباعاً بأنّ الحريري بات خارج الكنف السياسي السعودي، ولو أنّها نصحته بعدم قطع التواصل مع الرياض أيّاً تكن الظروف.
ولأنّ التقلّبات كانت كبيرة، فإنّ الصورة الانتخابية تبقى ضبابية، وتحديداً لجهة التحالفات. صحيح أنّ تيار «المستقبل» بات أقرب من أيّ يوم مضى الى تشكيل لوائح تحالفية مع «التيار الوطني الحر» والتعاون معه في مختلف المناطق، إلّا أنّ نصيحة «عدم القطع مع الرياض» تترك الأمور في دائرة الشك.
فالسعودية في الأساس رفضت القانون الانتخابي الجديد لاعتبارها أنّه يؤمّن مصلحة غريمها، «حزب الله»، وبالتالي سيوسّع ويشرّع مساحة النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط.
وما كانت الرياض تُردّده في اللقاءات المغلقة، أعلنه وزير الخارجية السعودي عادل الجبير بوضوح، ما يعني ضمناً أيضاً اهتمامَ السعودية بالانتخابات.
ولذلك تبدو صورة التحالفات الإنتخابية ضبابيةً استناداً الى الموقف النهائي لتيار «المستقبل»:
ـ أولاً، في حال إتمام السعودية لتفاهم جديد مع الحريري يرتكز على دعم مادي وتسوية جزء من ملفات شركة «سعودي أوجيه»، فهذا سيفتح الطريق أمام رؤية إنتخابية جديدة وعلى أساس تجاوز ما حصل.
ـ ثانياً، إنتهاج «القوات» سياسة هجوميّة تجاه الحريري يُوحي وكأنّ المناخ الإقليمي يسمح بذلك، أو بتعبير أوضح أنّ السعودية لم تقفل باب علاقتها السياسية بلبنان ولديها خطط جديدة في القريب العاجل.
ـ ثالثاً، وبعيداً من علاقة السعودية بتيار «المستقبل»، كيف سيتصرّف الحريري مع اصدقاء سياسيّين له على الساحة المسيحية؟ مثلاً ماذا سيفعل مع أنصاره في الدائرة الثالثة في الشمال، أي الدائرة المسيحية، والذين يتجاوز عددهم السبعة آلاف، وهذه أصوات يحتاج إليها «التيار الوطني الحر» الذي يخوض الانتخابات بشخص رئيسه الوزير جبران باسيل، كما أنها الدائرة الوحيدة التي يستطيع التقاطع فيها مع تيار «المردة» الذي دفع ثمن ترشيح الحريري لفرنجية الى رئاسة الجمهورية.
كما أنّ هذه الدائرة تضمّ لائحةً لـ»القوات اللبنانية». وتردّد أخيراً أنّ تيار «المستقبل» قد يعمد الى توزيع أصواته، لكنّ هذا القرار سيُغضب الأفرقاء الثلاثة على حدٍّ سواء.
ـ رابعاً، كذلك كيف سيتصرّف تيار «المستقبل» في دائرة زحلة مع «الكتلة الشعبية» خصوصاً وأنّ علاقةً متينةً جمَعت بينهما بدأها المرحوم ايلي سكاف واستكملتها ميريام سكاف وفعّلتها، وهي دفعت ثمناً لذلك في الانتخابات البلدية يوم استقبلت الحريري في المدينة وطاولتها حملات التشكيك.
ـ خامساً، كيف يمكن ترتيب الامور في ظلّ حرص تيار «المستقبل» على عدم الانتظام في لائحة واحدة مع «حزب الله»؟ صحيح أنّ تقاسم المناطق بين مرشّحي حركة «امل» و«حزب الله» أخذ في الاعتبار هذه النقطة، لكنّ هناك دوائر ستبقى «محرجة» بسبب تقاسم أعداد النواب بين الحركة و«الحزب» وطريقة الحفاظ على الحصص بينهما.
حسابات داخلية صعبة ومعقّدة تنتظر انْقشاعَ الصورة الإقليمية وتحديداً على المستوى السعودي، لكنّ الرؤية في الخليج تزداد صعوبةً بدورها مع بدء مرحلة جديدة من التصعيد في اليمن، حيث وضع الحوثيون معادلة قصف جديدة توازي ما بين صنعاء والرياض.
وفيما تنظر القوى اللبنانية الى الاستحقاق النيابي من زاوية فرض نفسها للمرحلة المقبلة، تنظر السعودية الى هذا الاستحقاق من زاوية نزاعها العريض مع إيران، وعقب ما رَست عليه الحرب في سوريا والتي أدّت الى خروج التأثير السعودي والذي كان كبيراً في المراحل الماضية.